لـيـلـى كـوركـيـس
ماذا لو عاد جبران خليل جبران الى الحياة. ماذا لو عاد وعاش في نيويورك، لا في بوسطن ولا في باريس، بل في لبنان حيث كان يسلك دروب الأرز ويزرع الورق لينبت شجراً.
مع الأسف يا جبران, لم نفهمك .. في هذا الزمن الرديء، توشك طوائفنا أن تبتلع الوطن.
لو أتيت الى عالمنا فعلاً لرأيتَ كيف لصوص الأرض يتخفون ببراقع لم تستطع الشمس أن تحرقها.
لَرأيتَ كيف الرياح تعصف بجراح الأرواح والأجساد.
يا جبران!
تلفني الكآبة في غربتي. أصبحتُ مثل مياه البحار، أصعد الى الشمس مع كل صباح، أتبخر ثم أتساقط دمعاً لأغسلَ آثامَ الرحيل. لم أعد بعد الى لبنانكَ ولبناني مثل الجداول. انني أجلس طيلة فصل الشتاء قرب الموقد والثلوج تطبق على قلبي ولا تغسلهُ.
ضمني اليكَ، أَغمِضْ عَيَنَيَ ودعني أحزن ، أحزن.
عانقني قبل أن أتلاشى مثل خطوط الليل والنهار.
أنقذني من القنوط في غوغاء المدن وأسوارها الرخامية.. انني أختنق وانتَ الهواء يا جبران!
أعزائي، لا لستُ أهذي .. هو جبران حين ترمق عيوننا أشياءه ومخطوطاته ولوحاته.
هو جبران حين تتنشق روحُنا روحَه فنحفر القبور ويغيب جسدُنا مثل جسدِه في التراب فيصعد بنا الإنسان كبخور الأرز العابق في سماء لبنان.
هم، يطلقون عليه « متحفاً » .. أما أنا فأسميه صومعة، هيكلاً أو معبداً .. وكأنني في كنيسة خالية من الناس. لكم أحببت الكنائس عندما تكون لي وحدي .. أصوات الزائرين تقرع بعيداً. لا أسمع الا دقات قلبٍ تتنقل من لوحة الى لوحة، من مخطوطة الى مخطوطة، من كرسي الى طاولة الى أثاث لا يزال جبران يلهث بين أفيائه في كل الغرف المتشحة بالبياض مثل ضباب مدينة بشري وغابة الأرز.
وأنا أتجول في ظلال أشيائه وألوانه ومخطوطاته، تراءت لي تلك الجدران المكرَّمة بلوحاته وكأنها غيوم بيضاء ما عادت السماء تتسع لأبعادها فَقَرَّرَت العودة الى الأرض لتجاورَ التراب الذي يغلف جسدَ مَن ابتدعها، هدية منهُ لنا..
سألتُ عن قبره فقالوا لي انزلي الى الطابق السفلي، هو مدفون وراء جزع شجرة. نزلت والى جانب فوهة المدفن المسدودة بأغصان من شجر الأرز، قرأت:
« كلمة أريد أن تُكتَب على قبري
أنا حي مثلك وأنا واقف الآن الى جانبك
فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك »
أغمضتُ عَيْنَيَ ورأيتُهُ. كان يرقب الهائمين بكؤوس الصمت، السائرين على رؤوس أقدامهم كي لا يوقظوا الزمن الغافي خارج دائرة واقعنا القلق على أرضٍ نسيَ ساكنوها أنها وطنُ جبران.